الاستاذ الدكتور علي اسماعيل عبيد
طبيعة العقل
إن الحياة بالنسبة للفكر القديم المادي أو الآلي تعد نوعا من الطاقة المادية أو هي حصيلة اتحاد الطاقات المادية وان الكائن الحي يفسر في أخر المر بواسطة القوانين الفيزياوية والكيماوية وهو ليس أكثر من ماكنة معقدة، بل ليس من الغريب إن تكون الماكنة معقدة، بل ليس من الغريب إن تكون الماكنة من نتاجات العبقرية الإنسانية، إما الإنسان فهو من نتاجات الطبيعة والتطور وطاقات المادة العمياء ! وبذا فقد نزع أصحاب هذه الآراء إلى تفسير تصرفات الإنسان بلغة الغريزة والفسلجة والكيمياء وذهبوا إلى إن التغيرات المادية هي التي تسبب الأفكار وليس العكس وكانوا يتوقعون إن القرن العشرين سيفسر لهم كيف ينبثق العقل من المادة. ولكن القرن العشرين جاء بحقائق لم تكن في حساباتهم. فان الفيزياء ومبحث علم الأعصاب أخذا يلتقيان عند المبدأ نفسه، مبدأ عدم قابلية إرجاع العقل إلى مادة. وان أولية العقل قد ربطت نظرية النسبية بميكانيكا الكم، وبحوث الدماغ بالانفجار العظيم، وشدة القوى النووية بحجم الكون بل صار اصغر جسيمات المادة لا يمكن التعريف به بمعزل عن خيارات وأفعال المراقب أو الراصد الذي اصبح ضروريا كمشارك (1)، وبذا فان النسبية و مكانيك الكم قد برهنتا على محورية الوعي وصارت تتضمنا المادة والقوانين الطبيعية والعقل. وبهذا تكون المادة قد خسرت الحقل الذي طالما اعتبرته متكأها.
وعلى الجانب الأخر فقد خلص شركنكتون من خلال تجاربه وبحوثه الرائدة في الجهاز العصبي إلى إن هنالك فرق جذري ما بين العمليات الحيوية والعقل، فالعمليات الحيوية هي مسالة كيمياء وفيزياء إما العقل فيستعصي على ذلك (2). إما أكلس المختص في علم الأعصاب أيضا فيصل إلى الحقيقة مفادها إن الوعي يختلف كل الاختلاف عما يحدث في آلية الأعصاب (2). ويقول عالم الأعصاب سبري إن الثورة الفكرية التي تحدثت في علم النفس خلال السبعينات قد احدثت انقلابا كبيرا في معالجة الوعي، فقد اخذ علم النفس يعالج احداثا ذاتية كالصور الذهنية والافكار الباطنية والاحاسيس والمشاعر والافكار الداخلية بوصفها عوامل فاعلة واصبح مقبولا ان مضامين الاستيطان وعالم التجارب الداخلية تستطيع ان تؤثر في العمليات الفيزياوية والكيمياوية التي تتم في الدماغ ولم تعد تعامل بوصفها جوانب منفعلة (4).
ويضيف سبري ان الخواص المخية العليا للعقل والوعي هي التي تملك زمام الامور وتسيطر على الفعاليات الكيمياوية والفيزياوية وتهيمن عليها وهي التي تتحكم بحركة النبضات العصبية. ويضيف ان نموذجنا الجديد (المبدا الذهني) هو الذي يشغل العقل والخواص الذهنية ويعطيها سبب وجودها في النظام المادي (4). ويقر كل من اكلس وبنفيلد في ان العقل لا الدماغ هو الذي يراقب ويوجه وهو المسؤول عن الوحدة التي نحسها في جميع افكارنا واحاسيسنا وعواطفنا (5،6). ويقرب كل من كروس وستانسو الصورة فيقولا ان البحث عن العقل في الدماغ اشبه ما يكون بالبحث عن المبرمج في الحاسبة الالكترونية (7). وبنفس المنوال يؤكد بنفيلد على تفسير العقل على اساس النشاط العصبي داخل الدماغ سيظل امرا مستحيلا كل الاستحالة وان الاقرب الى المنطق ان نقول ان العقل جوهرا متميزا ومختلفا عن الجسم (6).
نعم.. فحينما يبصر الانسان شيئا فان الضوء المنبعث من ذلك الشيء يقع على الشبكية وهي صفيحة من المستقبلات شديدة التراص (عشرة ملايين مخروط ومائة مليون قصيب)- يؤدي الى تنشيطها فترسل نبضات الى العصب البصري الذي ينقلها بدوره الى الدماغ وعندما نسمع فان الموجات الضوئية تؤثر في طبلة الاذن وتنتقل بواسطة عظيمات الاذن الوسطى (المطرقة والسندان والركاب) الى قوقعة الاذن الداخلية ومنها الى عضو كورتي Corti الذي يحوي خلايا حساسة كهرومغناطيسية وهي الخلايا الشعرية التي تولد الدفعات العصبية الى الجهاز العصبي استجابة للاهتزازات الصوتية. وعلى نفي المنوال تسير فسلجة التذوق والشم واللمس.
لقد صار معروفا ان فسلجة الحس لدينا تتكون من استثارة ميكانيكية تعقبها استثارة عصبية تتضمن نقلا كيمياويا واستقطابا خلويا depolarization وقد صار علماء الفسلجة يعرفون الكثير من النواقل العصبية الكيمياوية واليات فعلها كما اصبحت فسلجة الاستقطاب الخلوي معروفة للجميع. وقد عرف تقسيم برودمان للقشرة الدماغية وقد درست فسلجة كل منطقة ولكن ماذا عن كيفية المرور من التكيفات العصبية النهائية الى الادراك والمعرفة ؟ ما هي الالية التي يستطيع بها الدماغ ان يميز بين الاف الاصوات والاف الالوان والروائح، انواع اللمس والذائقة. لقد اجمع الكثير من الفيزيائيين وعلماء النفس وفقا لمعطيات الدراسات الحديثة ان عالم الاحساس ليس مقصورا على الفيزياء او الكيمياء. ويعطي اكروس وشتانسيو مثلا في هذا الجانب فيقولا ان الكتاب مثلا يتوقف على عنصر الورق والصمغ والحبر ولا يتكون بدونهما ولكن اجراء تحليل كيمياوي لهذه العناصر ومعرفة طبيعتها لن يكشف لنا شيئا عن محتوى الكتاب لان محتواه يشكل نطاقا اسمى يتجاوز تلك العناصر (8).
وبذا فان النشاط الفلسلجي والكيمياوي امر ضروري للاحساس متزامن معه ولكنه ليس الاحساس بعينه، والمادة وحدها لا تستطيع ان تفسر الادراك الحسي فالمادة تستطيع ان تتحدث عن الموجات الضوئية والتغيرات الكيمياوية والنبضات العصبية ونشاط خلايا المخ، اما عن عمليات الابصار والشم والسمع واللمس والتذوق فليس عند المادية ما تقوله وهنالك بون شاسع بين الاثارات المادية والعقل اللامادي. نعم ان مخنا على علاقة وثيقة بعمليات عقلنا لا يعتمد جوهريا على مخنا ويقر الناس ان عقلنا ليس ماديا كالماديات الاخرى فلا يمكن رؤيتة لو لمسه او اخذ صورة فوتغرافية له.
ومع يقيننا ان الادراك والمعرفة تعتمد على الحس ولكن معرفتنا لا تاتي من الحواس كليا لان العقل يسهم في حصته في تكوين المعرفة واظن لا يمكن الان القبول بالمذهب الفسلجي الذي ينص على ان معرفتنا تاتي كليا من التجربة الحسية أي ان عقلنا سلبي في مجال المعرفة، وربما كان (كانت) على صواب حين اشار الى ان الحواس والعقل تتعاون فيما بينها في كل فكر انساني، لكنه اخطا عندما اكد ان المعرفة العقلية لا يمكنها الوصول الى ما وراء حقل الحواس وكانت وظيفة العقل بالنسبة له هي تنظيم وتوحيد معطيات الحواس وبذا فقد اساء تقدير القوة الحقيقة للعقل الانساني ولم يدرك من ان معرفتنا قد تبدا بالحواس ولكن عقلنا يصل الى ما هو ابعد من ذلك. ان تحت تصرفنا مجموعة كبيرة من ملكات الاحساس الداخلي فان العين تدرك اللون ولكنها لا تدرك الصوت وان الاذن تدرك الصوت ولا تدرك اللون وان ايا من العين والاذن لا يدرك الاثنين معا ولا يستطيع التمييز بينهما وذلك لان أي ملكة قادرة على مقارنة شيئين لا بد لها ان تعرضها كليهما، وما من حاسة خارجية تستطيع ان تؤدي هذه المهمة ولكن لدينا ملكة داخلية تستطيع ان تدرك جميع الصفات التي تدركها الحواس وان تميز بينها. فضلا من ان العقل له قدرة الانعكاس الكامل على نشاطه، ادري انني ادري وادرك انني مدرك واعي انني واعي والعقل يعرف النشاط الذي يؤدية، ان له القدرة على الاستيطان الكامل في وقت لا تتصف الحواس بذلك فعيني ترى لكنها لا ترى انها ترى واذني تسمع ولكن لا تدرك انها تسمع. كما ان عقلنا يعرفنا بتلك الاشياء وما من حاسة تستطيع ذلك فان اللسان يدرك حلاوة العسل ولكنه لا يفسر لنا علة حلاوتة اذن فالعقل يمكننا من ادراك ما هية الاشياء وهو امر لا تستطيع الحواس القيام به انه يستطيع ان ينفذ الى العلة التي يرتكز عليها الاثر الذي تدركه الحواس. كما ان عقلنا له القدرة على استدعاء امورا لم تعد حاضرة فعملية التذكر شيء حاضر بالفعل ولكن الشيء الذي نتذكره ليس كذلك اذ ان ادراكنا الحسي الاصل قد زال تماما ولكن مع ذلك فهو ما زال تحت تصرفنا فضلا من ان العقل يمتلك ملكة الخيال التي نستطيع ان نصور بها لا الاشياء المدركة بالحواس الخارجية الخمس بل الاشياء التي لا تدركها هذه الحواس فاني استطيع ان اتخيل بيتا من الذهب او ذبابة بحجم الحصان او نهر من لبن. اذن فالخيال يستطيع ان يستخدم المعلومات الواردة من الحواس الخمس بحرية كاملة وبطريقة ابداعية.
الجزء الاول