اختار اسمه الحركي (أبو إبراهيم الناصري) وهكذا رافقه الاسم طوال حياته، حتى بلغني خبر وفاته في مستشفى ببيروت هذا اليوم ٢٧ تموز ٢٠١٧.
جلس معنا، كنا مجموعة شباب هارب من نظام صدام، لم نكن نعرفه، باستثناء ابن مدينته العزيز الغالي (الدكتور مصطفى الركابي/ أبو سحر) وصديقي من أيام الكلية (أبو ايمان الناصري). وقد ساد الوجوم اجواءنا المتآلفة آنذاك بالصداقة والانفتاح. فهذا القادم جلس بوقار صامتاً بعد التحية والسلام.
فتح الحقيبة الكبيرة، انكشف السرّ في ثقل وزنها، كانت تضم كيساً كبيراً من الرز، ومعلبات غذائية، وقطعة او اثنتين من ملابسه. قرأ الاستغراب في وجوهنا، فبادر بنبرة هادئة وكأن قلبه كان في لسانه:
ـ سمعت أنكم تعيشون عزاباً، فقررت أن أجلب لكم المواد الغذائية.
زال الغموض بلحظة واحدة، أحببناه بلحظة خاطفة، هذا القادم من الكويت، والهارب قبل ذلك عبر الصحراء، يحمل قلباً يسعنا جميعاً ومثلنا معنا، بل يسع الأصدقاء وغير الأصدقاء.
وقد حدد الأخ العزيز والمسؤول التنظيمي لمعظم الساكنين في الشقة (محسن شاكر محسن/ أبو عامر) مكانه في غرفتي الصغيرة ذات السقف الواطئ الذي يمنع انتصاب القامة بكاملها.
كنت مشغولاً أيامها في كتابة ثاني كتبي (استراتيجية الحرب العراقية الإيرانية) ـ صدر بعد أربعة اشهر من اندلاعها ـ فكان يسعى لأن يوفر لي كل الظروف المريحة لكي أكتب. وحين أريد ان اتبادل معه النكات والاحاديث الممتعة والمشاكسات المريحة، كان يسايرني في ذلك، ثم يطلب مني ان أعود الى الكتابة، فهذه مسؤولية يجب أن اتحملها (لتخدم الناس والأمة) وتلك العبارة كان يكررها دائماً، وقد كان رحمه الله مؤمناً بها إيماناً عميقاً امتزجت مع روحه وجوارحه.
قبل أن أسافر الى ايران، كان (أبو إبراهيم الناصري) الروح الطيبة التي تحوم في أجواء الشقة، كان يمارس دور الأم والأب والصديق، يتفقد النائم مطمئناً على غطائه، وينهض باكراً يهيئ الإفطار، وحين يتأخر أحدنا عن موعد الغداء أو العشاء، فانه يكون المحظوظ الأكبر، لأنه يحفظ حصته في قدر خاص، وبين لقمة وأخرى، يضيف الى القدر قليلاً من صحنه، ويردد: (حصة أخوكم).
تنقل الشيخ أبو إبراهيم الناصري على مدن عديدة قبل أن يعود الى العراق، وعمل سنين طويلة في منطقة نائية فيها مخيمات المهجّرين العراقيين (مدينة آبدنان) وهناك وخلال فترة وجيزة، كان منزله في كل القلوب.
...
صدقني أيها العزيز، كنت أريد ان أكتب عنك في سلسلة (هؤلاء في حياتي) وكنت أتمنى ان تقرأ الحلقات الخاصة عنك، لأستعيد معها الذكريات، على وقع ضحكتك الجميلة، لكنه القدر حرمني من دقائق سعادة معك ارجع فيها للذكريات الصادقة.
سأكتب ذلك أيها الحبيب، وسأحاول ان أضعها على قبرك لتقرأها روحك الطاهرة.
سليم الحسني