2015-08-31 01:59
محمد باقر الناصري، عباءة الجنوب وعصا الحق ومشعل المقاومة ومدرسة التفسير لكتاب الله المهجور حتى من قرائه في ازقة الحوزة العلمية، هكذا تتلمس الكلمات خطى دلالاتها في الطريق الى منزل آية الله الناصري القريب من ساحة الحبوبي في الناصرية، بين تمثال الحبوبي ومسجد الناصري بضعة متسوقين ومارة بملابسهم الرثة وجباههم السمراء وسواعدهم المفتولة بالقوة والعناد، بين الرجلين درجة قربى لا يعرفها أبناء الناصرية او غيرهم، كلاهما غادر النجف الى هذه المدينة السمراء يحدوهما سبب واحد وهو إيمانهما بأهلها في التغيير واعتقادهما بأهميتها التاريخية التي تحمل خلايا الحضارة وجينات المدّنية ووقود الثورة.كلما حاولت ان اكتب عن الشيخ محمد باقر الناصري تزدحم بذاكرتي مواقف كثيرة كنت شاهد عيانٍ عليها، لعل آخرها أبوته لمحافظ هذه المدينة الحالي «يحيى الناصري» وعدم رغبة الشيخ الأب بهذا المنصب التنفيذي الذي يعده الناصري مدخلا مظلما لدورة الشبهات.
لست بموقع الحديث عن متظاهري المحافظة ومطاليبهم من محافظهم وكابينته الادارية، بقدر ما اريد فصل الامور عن بعضها، فلا يحق لأحد منع متظاهر واحد من رمي منزل المحافظ بالاعتراضات نتيجة شعوره بحاجة او طلب.جمعتني مع الشيخ الناصري ليال كثيرة وحالكة حد التيه، كان فيها الشيخ مشرقاً ومضيئاً وشجاعاً حد الخوف من المجهول الذي ينتظر هذا العراق. كنت برفقة الناصري ايام الحرب الاميركية التي أسقطت الديكتاتور، كنتُ أراقب عينيه المشدودتين لشاشة التلفاز وهما تشردان بعيدا داخل الوطن المفتوح الاحتمالات، حيث أقام الناصري مع مجموعة من الباحثين عن وطن في منزلٍ قريب من الحدود العراقية الايرانية لاصطياد فرصة افتضاض بكارة تلك الحدود الشائكة والملغومة، كان الناصري بشيبته الناصعة الوقار وعباءته السمراء وقامته الفارعة يتقدم المسيرة التي سوف تحط رحالها في مناطق الخوف والمغامرة وهو يشحذ الجميع بجرعات هائلة لاقتحام أسوار الوطن والعودة اليه، وصلنا الى الناصرية قبل أن تسقط المدينة من اكتاف الجند المساكين الذين كانوا يدافعون عن نظام من ورق، ما زالت أعمدة الدخان تتصاعد من أبنيتها الحكومية وسط ذهول الناس وعدم تصديقهم بما يجري حولهم، حاول البعض إقناع الشيخ محمد باقر الناصري بالاختباء في احد المنازل الآمنة لحين وضوح الرؤية، خوفاً عليه من عملية اغتيال جبانة، لكن رسالة الشيخ الناصري كانت أهم من حياته، وربما كان يرى ما لا نراه بحكم تجربته في السياسة ومعطياتها، فهو يريد ان يطمئن الناس من خلال وجوده داخل مدينته الناصرية، فعلا بدأ الناصري بجولة مكوكية بين احياء المدينة ومناطقها لينطلق الى اقضيتها ونواحيها مبشرا الجميع بعهد جديد.خرج ذات مرة الى أسواق الناصرية ماسكاً بيديه مكنسة ليحث الناس على النظافة. ولا انسى انفعاله على شرطي المرور الذي اخذ التحية العسكرية لرتل من الهمرات الاميركية، حيث نادى عليه الشيخ الناصري وأمره بالشجاعة ووبخه على فعلته هذه قائلا له «انت سيد الموقف في الشارع ولا ولاية لغريب عليك».
هذه المواقف وغيرها كانت تحمل رسالة الناصري لأهالي المدينة وغيرهم ليقوموا بإعادة ترميم بنيتهم الاجتماعية والمدنية ومنظومة قيمهم التي كادت ان تتلاشى. رفض الشيخ الناصري كل العروض التي كانت تصله من بغداد ليدخل في مجلس الحكم او ليتبوأ منصبا في الدولة التي بدأت تتشكل بطريقة ارتجالية وسط تهالك الجميع على المشاركة في عناوينها، رغم كثرة الوفود والوعود التي كانت تصل اليه من خلال شخصيات لعبت ادواراً مهمة في تشكيل الحكومة الا انه ظل متمسكاً بمنزله القديم الذي استعاده فور وصوله، مستعيدا به مواقف وذكريات كثيرة كانت مخبوءة في ذاكرته، لعل أهمها ان هذا البيت اسهم في صنع الثورة ضد الديكتاتورية في مراحل مبكرة من الزمن الصعب.
كما رفض ان يغادر الناصرية الى بغداد او النجف، لأنه كان يعتقد ان عملية البناء الصحيح تبدأ بطريقة تحتية وليست فوقية، وان اعادة ترميم الحياة الاجتماعية تبدأ بالفرد ثم تنتقل للمجتمع، لذلك كان ينادي بضرورة استحداث وزارة يسميها هو «وزارة إعمار الجنوب».
اول شيء كلفني به الشيخ الناصري هو اعادة اصدار مجلة «التضامن الاسلامي» التي كان يصدرها في بداية ستينيات القرن الماضي، وأمرني برئاسة تحريرها، استشعارا منه بأهمية العمل الثقافي والاعلامي في عملية البناء.
اليوم وأنا اتصفح المواقف تغرورق عيناي بالأسى، ما الذي يدفع ببعض المتظاهرين للوقوف امام منزل الشيخ الناصري ومحاولة تشويه صورته بين الصورة المحترقة؟، هل فقدت الناصرية ذاكرتها المكتنزة بمواقف الشيخ الناصري؟، وهل تخون الأماكن ذاكرتها بهذه السرعة؟، وهل يزر الناصريون وازرة وَزر اخرى؟، فأبوة الشيخ الناصري لمحافظ المدينة لا تعطي الحق لمتظاهريها بتمزيق عباءة الجنوب التي حيكت خيوطها من الشجاعة والمقاومة وحروف القرآن الكريم والمطالبة بحقوق الجنوبيين.
أنا متأكد لو كانت حنجرة الشيخ محمد باقر الناصري بكامل أوتارها الصوتية لهتف بالإصلاح ومكافحة الفساد قبل هؤلاء الفتية الذين اختلطت عليهم الامور فأخطؤوا تقديرها. تاريخ الناصري ومواقفه لا يُختصران بكونه أباً لمحافظ او بيتاً يقصده السياسيون لينالوا ما ينالون من لوم وتأنيب على تقصيرهم في اداء مهامهم التنفيذية، وقد كنتُ شاهداً على مواقف كثيرة لسماحة الشيخ وهو يدعوني لحضور موعد له مع نخبة من صناع القرار، اذ هممت بالخروج قبل وصولهم فمنعني الشيخ وقال اجلس اريدك ان تسمع ما سيدور بيننا من حديث، وعند حضورهم صب عليهم الشيخ جام غضبه وانفعاله نتيجة مواقفهم المخجلة في ادارة الدولة.
يبقى محمد باقر الناصري اسماً لامعاً في تاريخ العراق السياسي والعلمي والاجتماعي لا تمحو مواقفه في صناعة تاريخ العراقي السياسي اخطاءٌ لم يرتكبها هو وإنما سوء قراءتنا لرموزنا الحقيقيين.محمد باقر الناصري، بتفاسيره العديدة للقرآن الكريم، ومواقفه السياسية الحادة التي جلبت له العداء احيانا من ذوي القربى، ودفاعه عن العراق والعراقيين في المحافل الدولية وامام الرأي العام، وعصاه التي يتوكأ عليها الوقار والعناد والمقاومة وذاكرته المكتنزة بالعلم والجهاد، بكل هذا وغيره يبقى الرجل ناصرياً بعباءةٍ جنوبيةٍ وعمامة وطن بيضاء كأنها السلام.